هشرنون هشرنون…ستةٌ وأربعون
في زمانٍ من الأزمان، وفي أسطورةٍ من الأساطير، يُحكى أن بلدةً قد مُحيَ أثرُها، وُلد فيها شاب قبل آلاف السنين يُدعى أكتانيوس. تناقلت الأخبار أن ولادة أكتانيوس شهدها أهالي البلدة ولم تُنسَ؛ ففي ذلك اليوم كان البرق والرعد شديدين حتى ظنّ من عاشوا في تلك الحقبة أنها النهاية. ولوحِظ أيضًا برقٌ يتوسط السماء يتشكّل على هيئة ثمانية جذوع، وبقي في السماء مشتعلًا حتى تراءى لهم أنه نذير شؤم. انتهت تلك الليلة ووُلد أكتانيوس، وكان بكاؤه وعويله يصدحان عند كل بيتٍ مجاور، والموت واقفٌ عند رأس والدته في حُجرةٍ مظلمة إلا من فتيل شموعٍ مُضاءة، والبرق في الخارج يدوي بصوتٍ مهيب. الأم تبكي والطفل يبكي والسماء غاضبة.
ولَدت الأمُ طفلَها لوحدِها، فأهالي البلدة لم يكونوا معها على وفاق؛ فالأم ترفض الانسياق لأي أمرٍ لا يستحسن رأيها، كانت عنيدة وصلبة وقوية، لم تكن تُروق لأحدٍ صفاتُها تلك، وعندما تزوجت والد أكتانيوس عارضها الجميع، لم تكن لتنصاع لآرائهم، بل ألجمتهم واحدًا تلو الآخر وتزوجته، فما إن مضت بضعُ سنين حتى تركها وغادرها في ليلةٍ هي وجنينها في قُشّةٍ متهالكة، .ولم يعد بعد ذلك، فكانت تلك الحادثة فاصلًا بينها وبين أهالي البلدة، تركوها بعد ذلك تواجه مصيرَ قرارها الطائش.
وفي دجى تلك الليلة، كانت روحُ الأم تتهاوى دقيقةً تلوَ الأخرى، تَنوح فلا أحد يُجيب، وتَصرخ فلا أحد يسمَع، وتستنجِد فلا أحد يُنجد، وتبكي بحرقة ولا أحد يدلف باب تلك القُشّة بتاتًا.
بعد ساعاتٍ متتالية من العناء خَمَد صوت والدة أكتانيوس، وعمّ الصمتُ الأسودُ في الأرجاء، صعدت روحُها إلى السماء، ماتت، وكان الموتُ نجيدَها ومجيبَها.
بعد حادثة ولادة أكتانيوس وبعد مضيّ سبعة وعشرون عامًا كوّن اكتانيوس حياتَه في تلك القُشّة بمساعدة عجوزٍ دُفع لها من أحد فاعلي الخير لتعتني به، فماتت لاحقًا. وعندما بلغ السابعة عشرة هدم القُشّة وبنى بالطين والحجر، حِجْرةً تتضمن مطبخًا ومكتبًا وسريرًا.
لكن العجيب أن أكتانيوس لم يكن بشرًا طبيعيًا!
كان لديه سرٌّ دفين وُلد معه في تلك الليلة، ومعجزةٌ مُرعبة تشكّلت بين أعضائه
خُلِق بثماني أرجل! ..
يستطيع إخفاءها عن الأنظار، وتدرّب مطولًا في السيطرة على أرجله فلا تظهر إلا عندما يقول:
“هشرنون هشرنون، ستةٌ وأربعون”
فتبدأ أرجله بالتجلّي والظهور من أطرافه، كان حريصًا كل الحرص على ألا يُفضح سرَّه لأي مخلوق
عندما كان أكتانيوس طفلًا لم يعِ ما يحدث له؛ كانت تظهر أرجله فجأةً عندما يشعر بالحماسة فيفزع فزعًا شديدًا، وكانت رهبته عظيمة في أن يراه أحد، كرِه كل ما يحدث له، كرِه أرجله ومقتها، لم يفهم نفسه ولم يفهم اختلافه، وهذا اللغز الذي جعله رجل العنكبوت.
في يومٍ من الأيام أخذ منشارًا وحاول أن يحشّ أرجله، فلم يقوَ على ذلك، فانهمرت دماؤه، وظل يبكي ويتساءل:
لماذا أنا؟ ماذا يحدث بحقّ الجحيم؟ لماذا لست مثلهم ألهو وألعب برجلين فقط؟
أغلق على نفسه في حجرته، طفلًا يحاول تفكيك أحجيته، لم يعد يلعب مع الأطفال في عمره، بل أصبح يجلس في منزله مع تلك الجدة الصامته.
عندما بلغ السابع والعشرين من العمر، عمل في البناء، كان مبدعًا منذ صغره في تقويم الأركان وتشطيب وضبط الأبنية.
بلغ هذا العمر وقد درس أرجله وأحكم سيطرته عليها، فتقبّلها واستفاد منها، بل إنها خدمته خدمات نبيلة.
تمتّع أكتانيوس بطولٍ فارع، نحيلًا لكن جسده مشدودٌ صلب. أسمر البشرة، بل تميل إلى السواد من لفحات شمس المشرق والمغرب، كان كالفزّاعة السائرة في البلدة، لم يكن له أصدقاء، فكان يُسلّي نفسه ويبلغ نشوة متعته عندما يُلاحق الأطفال ويرى تفرّقهم و وقوعهم وبكاءهم، يضحك في غمرةِ سرور، لم يحب منظرهم، بل يشمئز من لعبهم وتصرفاتهم، فما إن يلمح أحدهم حتى يطلق ضحكة شيطانية عالية ويركض نحوه قائلًا:
“تعالِ، لدي قدر كبير في المنزل، ما رأيك أن أطهوك مع حبات الجزر ؟”
أو يقول:
“لديّ في المنزل آلة حدادة، تعال لنريق بعض الدماء.”
كان الرعب يغزوا ملامحه، لا يكادون يلمحونه حتى يلوذون بالفرار، وعندما يطأ موطئًا يتواجدون فيه يصرخون خوفًا فارّين.
غامضٌ مرعب، لا أحد يحاول فهمه، ولا أحد يريد. لا يُحادثه أحد، فهو شخص جُنّ عقله، وبعيدٌ عن المنطق كل البعد، وبينه وبين الفطنة والبديهة كما بين المشرقين.
تقوّلت عليه هذه الأقاويل، حتى علمها كل فرد وكل وافد في البلدة، فكان يضع أقاويلهم تحت قدميه ويخرج من منزله مقهقهًا وبيده سطل ومجرفة.
كان أكتانيوس يقضي نهاره كاملًا بين ماء وطين وحجر، يُضني يديه ويكدّها حتى استحال لونها وملمسها أشبه بالطين اللازب. وعندما يعود ليلًا إلى حجرته، يُقفل الباب ويتأكد مرارًا من وضع إناءين أمامه ليسمع أي زائر فور دخوله، على الرغم من أن لا أحد يزوره البتة.
كان إذا فرِغ من عمله لا يجد ليديه جزاء لضناءها إلا أن يكتفها تكتيفًا محترمًا، فلا تلمس في الليالي شيئًا سوى بعضها بعضًا. يبدّل ملابس البناء ويرتدي قميصًا فضفاضًا، ويغني بلحنٍ يعزفه مزاجه البهيج:
“هشرنون هشرنون، ستة وأربعون”
فتستجيب أرجله وتنبثق راقصةً ظاهرة. كان يتدغدغ ويضحك في مجون وجنون .
كانت أرجله نحيلة قوية وطويلة، وعندما يكتمل ظهورها يذهب إلى المطبخ بهيئته التي تُرعب كل ناظر مهما بلغ من الشجاعة
يُخرج البن ويطحنه بمطرقة بدائية صنعها بنفسه، ويسخّن الماء بشعلة نار يشعلها بسرعة البرق بمساعدة أطرافه، ويضع الماء والبن معًا، ثم يتجه نحو مكتبه بغبطة وسعادة. يحتسي قهوته برجلين، ويمسك قلمه برجل، ويمسك الأوراق برجل، فقد كان كاتبَ نكاتٍ بارع، وإن كانت نكاته غريبة الأطوار لا تُضحك أحدًا سواه، ورجلان يحكّ بهما ظهره، وربما يمشط شعره من حينٍ لحين، أو يلعب مع اليدين المكتفتين لعبة الخدع البصرية مع ظل الشمعة على الحائط، أما الاثنتان الأساسيتان فهما اللتان يسير بهن ويثبّتهما على الأرض.
وإحدى نكاته التي تُغمي خوفًا لا ضحكاً:
في يوم من الأيام خرجت عجوز مجنونه وأخذت طفله من أمام منزلها، وذهبتا يسيران في الصحراء بين الرمال الحاره ويتحدثان..وفي لحظةٍ ما اختفت الطفله
وعادت بعد ذلك العجوز تتغنى بسعاده بين الطرقات، وعندما سألوها أين الطفله؟ قالت العجوز: أخبرتني أنها جائعه فقلت لها هل ذقتِ يومًا طعم المعده؟ قالت لا، فأكلتها لتنعم بمعدتي، فشبعنا الأثنتين
كان يعيش أيامه بهذه الرتابة، بسكون وسعادة. إعتاد الوحدة، بل لم يعرف يومًا سواها، ولم يفكر يومًا أنها وحدة، بل كان يتصور أنه يعيش مع أرجله، فهنّ عن ألف وليف.
لم ينتظر أو يتوقع أحدًا يأتي إليه، ولم يكن يتحدث إلا ليُخيف الأطفال أو ليستفسر عن رغبات من يُعمّر لهم .
وفي يومٍ من الأيام عاد إلى حجرته متطلعًا لطقوسه المعتادة، وضع سطله ومجرفته، وبدّل ملابسه، واستدعى أرجله وهو يغني.
وبينما هو سائر نحو موقد النار .. إذ بالضابط وأمين البلدة يدفعان الباب بمداهمة تفزع النفس! بدخولٍ سريع لا تُجدي معه أصوات آنية ولا التهيئ لأية إحتياط..
لم يكن بالإمكان البتة أن يُخفي أرجله مهما بلغت سرعته
كانا محمّلَين بأسلحة وكلبشات وسياط، وخلفهما تجمّع الأطفال مرعوبين، وأهالي البلدة أجمعون
“أكتانيوس! لا تجرؤ أن تتحرك من مكانك. انظر إلى الحائط، ولا تنبس ببنت شفة، يا لك من شيطاني مخيف، هَيّا الآن!”
كان أكتانيوس ينظر بشرود، ولم تظهر على وجهه أي علامة رعب. حَدّق في الأطفال، واجتاحته رغبة اللحاق بهم وطردهم، واشمأز من منظرهم الدوديّ المتكدّس في الخلف.
يتأمل الضابط ويحاول أن يستوعب ما يحدث:
كيف عرفوا؟ ماذا سيجري الآن؟ من أخبرهم؟ ومتى لُوحظت؟ وهل سيُطلق سراحي أم سأُقتل مُعلّقًا بأرجلي؟
يتساءل في تأمله اللحظيّ في هذا الحشد خلف باب منزله، الذي لم يطؤوه قطّ من قبل.
لماذا يحتشدون أمامي الآن؟ كأنهم جرادٌ مرعوب.
استفزّه ذلك المنظر أشدّ الاستفزاز، فما كره منظرهم يومًا كهذه المرّة
علامات الرعب بادية على ملامحم حتى أن البعض استحال جالسًا، فلم تقوَ أرجله على الوقوف من هول المنظر.
إقتاده الضابط، فوضع على كل طرفين كلبشة.
لم يشعر بشيء سوى أنه يريد إكمال روتين المساء المعتاد ويغلي قهوته..
أُخِذ جرًّا إلى شاحنة مواشٍ متهالكة، كان الرعب مُصوَّرًا في أعين الناظرين وصارخًا في تحركات الأطفال، فما انفكّ ينظر إليهم من خلف نافذة، وهم يراقبونه مشدوهين، حتى توارى عن الأنظار
وفي صباحٍ أعقب ذلك المساء، دقّت أجراسُ المحاكمة كما تجري العادة عند الاقتصاص من أي جانٍ.
تجمّع الأهالي في ساحة الحكم، وأقاموا عمودًا شاهقًا متينًا، وحضر القاضي..
وفي ثرثرةٍ تعلو من الجَمع وحماسةٍ منهم، وكأن الذي سيُحاكم وحشٌ خياليّ، لا مخلوقٌ عاش وحده؛ فلم يطلب، ولم يحتجّ، ولم يعارض، عاش كأنه سرابٌ مرعب، لا يلوي على شيء، ولا ينوي تخطّي عتبات غرفته مساءً، ولا يتمنى سوى ألّا يعكّر صفو ليله أحد.
وفي لحظةٍ هدأ الجمع
وركد الحشد
وصمت كلُّ من في الساحة؛ من صرير رياح، إلى حفيف أشجار، إلى تغريد طيور
وكأن العالم في مهابةً لهذه اللحظة..
دخل أكتانيوس مقتادًا، تعلوه لأول مرة نظرةٌ باهتة، ماتت قبل أن يُقتل، وأمام كل من في البلدة
علا صوت القاضي قائلًا:
عشتَ بيننا وحشًا، وكتمتَ سرك البشع، وكأنك لا ترانا سوى هامشٍ مهمَّش. أعطيناك عملًا لتقوم على نفسك، ووهبنا لك مساحةً لتبني لك منزلًا، فما آذاك أحدٌ قط، وتنكر معروفنا، وتجحد عطايانا، وتستتر على أرجلك الوحشية! فمن أنت؟
لا نعلم ما سيؤول إليه حالك غدًا؛ ربما ستظهر لك أنياب، وينبت فيك فروٌ خشن، وتهجم على مواشينا ورعيتنا…
ولذلك سينطَق الحكم الآن علانيةً أمام الملأ
"حُكِم على أكتانيوس بالقتل شنقًا، فما للوحوش مكانٌ بيننا… اقتادوه الآن إلى المشنقة.."
والحقيقة أن أكتانيوس لم يطلب عملًا البتة، بل بنى كلَّ طوبةٍ بيديه، تكرمًا منه للمحتاجين ومن لا يجدون سقفًا يظلهم من أشعة الشمس، ولم يكن ليأخذ مقابلًا إلا إن تُفضل عليه بكسرة خبز. وما وهبه أحدٌ قطعة أرض، بل كانت أرض والدته التي سوّتها وواستها بيديها. ولم يكن لأحد فضلٌ عليه، بل عاش في منأى عنهم، فما كفّوه أذاهم
بل ها هم يقتلونه شنقًا.
وفي لحظة صعوده إلى المشنقة لم يُعارض، بل بكل تسليم كعادته، وضع الحبل حول عنقه، ورمى ما تحته من براميل، فستحال وجهُه بتلوّنٍ حتى استقرّ على لون الرماد.. وسكن..
وفي هذه اللحظة تلاشت أرجله وتوارت وتجلّت إلى العدم، وفيها صرخ الأطفال خوفًا
فالسماء فوقهم تحوّلت إلى سواد، وتجمع الغيم، وعصفت الريح، وهجم تيار هواء على الأشجار حتى أمدّها، وعلى الطيور حتى قتلها على أجدُرِ المنازل، وعلى الناس كافةً حتى أحالهم قطعًا متناثرة ودماءً سائلة.
وبرقَ رعدٌ مدوٍ أخذ كلَّ مساحة السماء وأشعلها ضياءً تشكّلَت بثمانية جذوع.
مات أكتانيوس ..
واستردّت السماء هبتها..وقُتل كلُّ من وُجد على أرض تلك البلدة
- إنتهى-
“نصل بالخيال إلى سماء بلا حدود وهناك نجول ونجول نجول، لكي نعيش من وقتٍ لآخر, لكي تتلوّن اللحظات وتستمر البهجة تلازمنا ، يالها من هبه تجعلنا نقضي الوقت بخفّه تحيك لنا الأمل “


قلم بارع وكتابة باهرة، بارك الله هذا الخيال الخصب وهذا العقل المتقد وهذا القلم الرشيق، جميلة وبديعة أوصافك لأوكتانيوس، ذكرتني قصته جدا بقصص الرومان القديمة مع ملمح كافكاوي جميل، متشوقة للغاية لقراءة المزيد والمزيد من ابداعاتك عزيزتي.
أحسنتِ كتابةً وخيالًا، وعمرانكِ لحبكةٍ تليق بروائيةٍ مبدعة، بل تليق بحروفكِ وكلماتك.
يزداد إعجابي كل يومٍ بما يحيكه لنا قلمكِ، سواء أكان خيالًا أم شيئًا أبصرته عيناك.
وآخرًا، سَلِمت أناملكِ، وقبلها فِكرك.
“نصل بالخيال إلى سماءٍ بلا حدود، وهناك نجول ونجول ونجول.”
أحببتُ سطرك هذا، وجدًا